أمي ، كنت بالنسبة لها نور عينها
ترى به جمال الوجود . كانت تردد بمناسبة أو غير مناسبة، باني تاج فوق رأسها ووسام على صدرها و تحفة هبة
من الله لها ، كانت تتفاخر بي أمام الجميع ...
قصت علي أنها قبل ولادتي رأت في
المنام شخصا أهداها وعاءا من الفضة ، شكل ذلك الوعاء جميلا جدا لكنه به " نبش" ...
وأضافت ، عند ولادتك كنت في غاية البهاء وكامل الأوصاف شد انتباه الجميع، حتى
نسوة الجيران تسابقن لرؤيتك واحتضانك والكثيرات منهن شاركت أطفالهن الرضاعة ودعون
الله أن يرزقهن ولدا يشبهني. أما ذلك "النبش"
، هو عبارة عن "عيب خلقي" ،
نفسي أكثر منه عضوي...
وحكت علي أن إحدى الجارات مرض ابنها في نفس الوقت مرضت أنا أيضا بمرض كان
غريبا في ذلك الوقت، دعت تلك المرأة الله أن يحفظني ويتوفى ابنها. فعلا ، استجاب
الله لدعوتها ، لقد مات ابنها وشفيت
أنا...
لقد كنت أزور تلك السيدة الفاضلة في سنواتها الأخيرة من عمرها وحضرت
جنازتها وكانت فرصة أن ألتقي بابنتها وهي أختي في الرضاعة، عانقتني بشوق وحرارة ربما
أكثر من أخ الرحم . "عيب الزمان أنه لا يعود إلى الوراء ليتلذذ الإنسان مرة أخرى
حلاوة أيام و ذكريات"...
أما بالنسبة لي ، أمي كانت هي نبضات
قلبي وروح وجداني . كانت أمينة سر أوجاعي كنت أخزن لديها تلك الأوجاع لتتحول
إلى آمال و أحلام...
وعند رحيلها تحولت تلك النبضات إلى
أوجاع وألام. تماما كالشخص يكون يسير على درب مضاء بأضواء كاشفة و فجأة تنطفئ تلك
الأنوار ويبقى الظلام دامس على درب وعر. أو كالذي تتوقف فجأة نبضات قلبه ...
لقد تعلمت منها كل ما هو جميل و مضيء في هذا الكون وكل ما هو طيب وفضيل. حكي إلي ، عندما كنت
رضيعا ، لا أفارق ظهرها صباحا مساءا حتى وهي تشتغل ولا تخلد
للنوم إلا وأنا مضموما في أعماق صدرها...
كانت تفرح لسعادتي وأفراحي وتبكي أحزاني ،لقد غرست في الشهامة وعدم إيذاء
والغدر بالناس . تعلمت منها الأمل بدل اليأس. عندما كنت أعيش مرحلة يأس كانت تقول
لي " لا تحزن يا بني ، إني أراك في الأعلى" . كنت أحس بدعواتها لي صباحا
مساءا تخرجني من اليأس و تدفعني دفعا نحو
الأمل ...
كنت أتمنى لو أن خبر رحيلها كان
حلما وكابوسا ينتهي ويزول عند رنين الجرس وصياح الديوك لأستيقظ وأجدها بجانبي وابتساماتها تعلو محياها
الجميل ...
ما أجمل تلك الأحلام في نومي وهي بجانبي، تمنيت لو تزول اليقظة و تستبدل
بالأحلام و تلك الأحلام هي الحقيقة و اليقظة هي الأحلام...
كلما زاد شوقي إليها أزور المقابر
ليلا أبحث و اسأل عن عنوان صاحبته لهيب فراقها في الفؤاد يشتعل. أطرق الأبواب همسا
وجيرانها نيام ، احترامهم واجب مقدس...
أهمس ولهفة اللقاء يلهبني ، يا ساكنة الدار أأنت في انتظاري أم مازالت
نائمة واللقاء مؤجل . وعندما لا يأتيني الرد أعرف أن اللقاء مازال بعيد المنال ...
تمنيت لو يتم الحكم بالموت شنقا على يوم رحيلها ويمحى من جدولة الحساب و الوجود
لكي لا يذكرني بلحظة و قسوة الفراق و بالآلام
وأوجاع الرحيل...
آخر مرة رأيت فيها أمي تبكي بحرقة
والدموع تنهمل على خديها سيلان المطر في عز الشتاء ، يوم كنت أحزم أثاثي للرحيل
عندما تم تعييني في "المشروع المذكور" ، كأني ذاهب بلا رجعة أو كأني لن
تراني بعد ذلك أبدا. وعندما سألتها عن سبب
بكائها، قالت لي أنها لن تعود تراني كل
مساء...
هونت عليها الأمر بأنه لا يستحق كل ذلك ، لكن بعد أيام قليلة عند عودتي لبيتي
الجديد في المنطقة التي أعمل فيها وعندما
فتحت الباب ، رأيت والدتي وهي تنتظرني ...
وللحظات تتداخل لدي الزمن ، هل أنا في السابق أم في الحاضر ، قبل أن أعود
للوعي وأعرف أنه الحاضر وان أمي وقبل أن أعطيها عنواني الجديد أجبرت والدي أن يصطحبها لزيارتي و الاطمئنان علي في منطقة لم تعرفها ربما لم تسمع بها من قبل. الوصول إليها (المنطقة) ، لابد من السفر ليلة كاملة والبحث عن بيتي استغرق يوما كاملا ...
كالذي يبحث عن إبرة في كوم من
التبن ، لأني كنت جديدا في المنطقة و لا احد يعرفني و ليس لديهما (والدي
ووالدتي) العنوان ، وللحسن الحظ في آخر
النهار تم العثور على بيتي ، لو لم يتم ذلك لباتا في العراء. في وقت لم تكون فيه
وسائل الاتصالات متوفرة ( مثل الهاتف
المحمول) ، كالوقت الحاضر ...
ومن ذلك الوقت زيارات أمي لي لم تنقطع أبدا وكانت أحلى أيام بالنسبة لها
ولي. لكن في أخر عام من وجودها في الحياة الدنيا كانت تلح علي بإصرار عجيب أن أعود لكي تراني كل مساء. لم أعرف في ذلك
الوقت سبب إصرارها لكني عرفت السبب بعد
وفاتها...
أمي ، كانت مريضة منذ سنين طويلة بمرض "سرطان الثدي" ، لم تخبر به أحد، حتى والدي أجبرته على
الكتمان. وكانت تتخاصم معه عندما ينصحها بمراجعة الطبيب...
كانت تخشى الأطباء و تكره
المستشفيات و تدعو صباحا مساءا أن يتوفاها الله وهي على فراشها و لا يكشف عنها
طبيبا...
نعم ، لقد ورثت عن أمي ذلك الشعور و الإحساس اتجاه الأطباء ، و كلما
فكرت في المستشفيات تصيبني الرعشة والخوف و أرى على أبوابها (المستشفيات) ملائكة
العذاب قلوبهم سوداء عكس بياض ثيابهم ، مكانهم أبواب السعير وليس معالجة الناس. وأخاطب نفسي كلما مرضت ، قائلا : "يا نفس أصبري ، فالمرض أهون" ...
وفي شهر رمضان سنة رحيلها كنت أنتظرها أن تزروني في أيام العيد ، لكن في
أواخر الشهر المذكور جاءني إحساس غريب بأن
علي أن أزور أمي حالا ...
وصلت ليلا وجدتها نائمة و أفراد العائلة من حولها ، لقد كانت في المستشفى
طيلة شهر رمضان وطلبت بان لا يتم إخباري و إزعاجي ...
عندما فتحت عينيها ووجدتني بجانبها بدأت دموعها تسيل . قلت لها يا أماه، لما البكاء، هي لم ترد لكن أفراد العائلة قالوا
أنها كانت خائفة أن تموت قبل أن تراني...
أجبتها بسخرية : أماه ، هل هناك من يعرف بيوم موته ؟ . وللعجيب نهضت
وكلها حيوية كأنها لم تكون مريضة وأخذتها لزيارة والسهر عند الأهل . و برمجنا أن
تصطحبني بعد يوم العيد لتمكث عندي بعض من الوقت من أجل الراحة والاستجمام...
ويوم العيد رافقتني لزيارة الأهل
الأحياء في مساكنهم و الأموات في مقابرهم ، لكن في اليوم الثاني من أيام العيد بعد الظهر، بدأت
تتألم بشدة وأخبرت الجميع أنه
اليوم الأخير في حياتها ...
لم أعير ذلك أي اهتمام ، لأني أعرف أن أمي حساسة
جدا مع الأمراض وعند ابسط وعكة صحية ، حتى لو كانت بسيطة جدا، تقول
أن نهايتها في الوجود وصلت...
لكن في المساء زاد عليها الألم مما أجبرت رغم إرادتها على حملها للمستشفى
وطول الطريق وهي تلح علي إلحاحا وتوسلا أن أعيدها للمنزل ، لكني لم استجيب
لطلبها...
وفي المستشفى وأنا واقف عند باب قاعة العناية المركزة خرج الطبيب ليقول لي
تلك العبارة محطمة القلوب: "البقية في حياتك" ، لقد رحلت عني أمي . ثم
سألني ذلك الطبيب ، منذ متى وهي مصابة بهذا المرض ، قلت له أي مرض ؟؟؟...
أراني صدرها المغطي ورأيت ذلك الورم الخبيث وهو جاثم على ثديها
الكريم ، مصدر ومنبع حياتي. في تلك اللحظة فقط عرفت مرض أمي التي لم تكشف
عنه لأي أحد ...
أمي ، والدها ذلك الشيخ الورع أتذكر أوصافه و ملامحه جيدا ، قال لها يوما : "يا فلانة، يوم موتك يكون كيوم
زفافك"، من شدة حبه لها ، رغم له الكثير من البنات و الذكور...
لقد ماتت أمي في اليوم الثاني من
أيام العيد وهي لم تنزع بعد ثياب وحلي العيد التي كانت تتزين بهما ، لقد ماتت فعلا
كعروسة يوم زفافها ...
الكل يعرف ذلك الداء الخبيث كيف
يفتك بضحاياه و يجعلهم هياكل عظمية متحللة قبل الانقضاض والقضاء عليهم وإرسالهم
إلى الأجداث...
لكن أمي ماتت وهي في كامل أناقتها البدنية و الشكلية وقضت أيام العيد وهي تتجول معي وزارت أهلها منهم
من يسكن في الطابق الخامس من عمارة شاهقة صاعدة على رجليها ، صعود يرهق حتى من هم أقل منها سنا ...
والكل يعرف أن الشخص عندما
يموت تتغير ملاحمه وبالخصوص المصابين بذلك
الداء الخبيث ، لكن أمي لم يتغير لونها وبقى ذلك البهاء يلمع من وجنتيها كالعروس
في يوم زفافها ، تماما كما تنبأ لها والدها...
ماتت أمي واسودت في وجهي ملامح الحياة و لم يعد للحياة ذوق أو معنى ، عقود
من الزمن مرت على يوم زفافها ، عفوا يوم وفاتها ، لكن شعلة الفراق لم تنطفئ و لا أظن أنها تنطفئ قبل الالتحاق بها ... وقلت كلمات رثاء وكانت غير كافية في حق أم كانت
سبب وجودي وسعادتي :
أمي ، رحلت عني ...
أرجو وأتوسل من الله عز و جل أن يرحمك كما ربيتني صغيرا...
و رعتني وأنا
كبيرا وسهرت بجانبي ليالي وأنا مريضا...
وقطعت مسافات
طويلة لتطمئن على حالي...
وتبكي أحزاني
وتفرحي لسعادتي وأفراحي ...
أماه ، رغم أنك لم تدخلي كتاب أو مدرسة في حياتك...
لكنك كنت لي
مدرسة وجامعة ...
تعلمت منك كل ما هو جميل و مضيء في هذا الكون..
و كل ما هو
طيب و فضيل ...
لقد تعلمت منك
الإيمان وعدم إيذاء الناس و عدم الغدر بهم...
وحب
واحترام الجار وإكرام الضيف...
والإحسان
للمحتاج وطارق الباب...
تعلمت منك
الصدق وعدم خيانة الأمانة ...
تعلمت منك
نظافة القلب و اليدين ...
تعلمت منك معنى
الكفاف و العفاف...
تعلمت منك الأمل بدل اليأس...
رضاك و دعواتك
كانت أضواء و أنوار أضاءت لي طريق الشهرة
و المجد ...
أماه ،
سأبقى ما دمت حيا أذكرك في يقظتي و منامي...
وقلب
نبضاته ذكراك...
أتمنى لو أن رحيلك كان حلما وكابوسا...
ينتهي
ويزول عند الاستيقاظ...
لأجدك
بقربي و بجانبي...
أماه ، كان يوم موتك مثل يوم زفافك ...
هكذا تنبأ لك
والدك في صغرك...
حبا وتقديرا
لعفتك و إخلاصك...
ما أجمل تلك
الأحلام وأنت بجانبي...
لولا صيحات
الديك ورنين المنبهات و الأجراس...
تمنيت لو
تعدم شنقا كل الديوك قبل الفجر...
وبزوغ الشمس...
وتخرس
إلى الأبد تلك الأجراس...
لأبقى بقربك
في لقاءات المنام ...
تمنيت لو
تزول اليقظة وتستبدل بالأحلام...
أماه ، إذا
كان للحياء أما...
فأنت تلك
الأم...
هذه ليست
أقوالي...
وإنما رثاء
الناس والجيران يوم رحيلك...
كلما تذكرت يوم الرحيل أتمنى محوه من الوجود...
وعدم ذكره في
الجدول و التقويم...
أماه ، رحيلك
جرحا ينزف حروقا...
تعجز الأيام والسنين على إطفاء لهيبها...
حروقا مصدرها
لهيب الفراق...
مدفونة
في الأعماق تنزف ألما وشوقا وحنينا...
حروقا تعجز
على إطفائها مياه الأنهار و البحار...
حتى ولو
جاءها المدد من المحيطات ....
رب اغفر لوالدتي
وارحمهما كم ربتني صغيرا...
واجزيها بالإحسان إحسانا وبالسيئات غفرانا...
بلقسام حمدان العربي الإدريسي
06.12.2015
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق