أتذكر الأيام الأولى للخروج المستعمر و إعلان الاستقلال الوطني ، كنت حينئذ صغيرا ، في يوم من تلك الأيام كنت بصحبة والدي عندما مررنا على أثاث معروض للبيع على حواشي الطرقات ...
تلك المقتنيات تعود للمستعمرين الذين فروا من البلاد بمجرد إعلان الاستقلال تاركين كل شيء وراءهم مما مكن الكثير من الناس اقتحام تلك البيوت والاستيلاء على كل من داخلها وعرض بعضها للبيع ...
ذاكرتي ما زالت تحتفظ بصورة طاولة مطبخ ذات شكل هندسي جميل جدا ، كانت من ضمن المعروضات للبيع...
طلبت من والدي شراءها لنا ، رغم أننا في ذلك الوقت كنا لا نملك أصلا مطبخا ، كنا نسكن في بيت لا تتعدى مساحتها بضعة أمتار مربع ، منها غرفة نوم ومنها مطبخ و "قاعة استقبال الضيوف"...
بعد طلبي وإذ بوالدي ينهرني مشددا على يدي بقوة قائلا : "أجننت يا ولد ..." ، قبل أن يضيف بنبرة أكثر هدوء : " كل تلك الأشياء من بقايا المستعمر ، لا يجوز اقتنائها "...
متمما حديثه ، كأنه يرد ما كان يدور في ذهني : "أما هؤلاء الذين تراهم يبيعون و يشترون في تلك المقتنيات حسابهم سيكون عسيرا و ستحاسبهم و تعاقبهم الثورة"...
في الحقيقة ، كلما عادت ذاكرتي إلى ذلك الزمن واستحضرت شريط واقعة "طاولة المطبخ" ، أردد بيني وبين نفسي ، عبارة "والدي المسكين"...
والدي الذي كان يرى في شراء طاولة تعود للمستعمر جريمة لا تغتفر في حق مبادئ و قيم الثورة واهانة للشهداء الذين ضحوا من أجل ذلك اليوم الذي أجبر فيه المحتل على الفرار ، كان آخرون يغزون و يستولون ليس فقط على أثاث منزلي وإنما على عقارات ومباني...
والدي الذي كان عامل يومي في عمل غير دائم و غير مستقر ، كان لا يُفوت فرصة تسليم نصيب من أجرته الزهيدة في اشتراك تدعيم الثورة ...
رغم ذلك لم يخطر على باله يوما انتظار مقابل من تلك المساهمة لأنه كان يرى في ذلك حق وواجب لتمكين الثورة من الصمود و الاستمرار...
وتلك المساهمة المالية البسيطة لا يُمكن لها بأي حال من الأحوال مقارنتها بتضحيات شهداء قدموا دمائهم ثمنا ليأتي ذلك اليوم السعيد ، يوم "الهروب الكبير" للمستعمرين لتباع مقتنياتهم على حواشي الطرقات...
ووالدي بسلوكه هذا كأنه كان يخشى أن تطبق عليه الآية الكريمة : " وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ"...
بلقسام حمدان العربي الإدريسي
11.06.2018
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق